menu
المفكرة الثقافية لـ - November 2024
|
|
* أقلام دبلوماسية
>
.
راحل عظيم
بقلم: د. عبدالولي الشميري
ما من حزن أشق على القلب والروح مثل فراق الأحبة، ولا مصيبة للأمم والشعوب تعدل مصابها بعظمائها ونبلائها وزعمائها، واليمن الحبيب مني مع غروب شمس العام 2007م ومع اقتراب رحيل لعام 1428 هجرية بفاجعة وأي فاجعة مؤلمة، لقد رحل عن عالمنا أكبر أفيال اليمن، وحكيم من حكماء الأمة الإسلامية، القامة العملاقة في سماء الوفاء والشجاعة والوعي، كان كبيرا بكل المقاييس وشجاعا في كل المواقف. إنه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي أراه الأحق مني بمدحه الشاعر (محمد حسين علي) حين قال:
يا كبيرا نفسا وعقلا وهمة          
أنت في كل ما يشرف قمة
لم يكن أبناء الشيخ الراحل وبناته وذووه وآله أشد مصابا، أكثر منا حزنا على الراحل الحبيب، من قلوبنا، ولسنا بأقل منهم حزنا، فالشيخ عبد الله الأحمر كان له في حياتنا بصمات، وعلى جباهنا وخدودنا قبلات، وله في شدائدنا مواقف ووثبات، وإني لأراه الأولى من صخر بقول الخنساء:
وإن صخرا لمولانا وسيدنا          
وإن صخرا إذا نشتوا لنحار
وإن صخرا لتأتم الهداة به
          
كأنه علم في رأسه نار
ومثلما كان الشيخ في حياته، كان كذلك في مماته، علو في الحياة وفي الممات،
فقد التقت القلوب من داخل اليمن وخارجها على حياض الأسى معلنة بكاءها الصادق على الرجل الذي عاش صادقا واضحا، ومات أصدق، وأوضح. ونسأل الله جلت قدرته أن يبعثه في منازل الصديقين.
لقد كانت الجنازة ذات المليون مشيع للفقيد استفتاء طوعيا على حب الناس له، وشعبية مودة وثقة بالرجل، فقد سارع إليها محبوه زرافاتِ ووحدانا من كل القرى والمدن اليمنية، ومن بلاد شتى عربية وإسلامية، حضروا ليشيعوا فيه أخا بارا لأمته، ومجاهدا فذا أسمع صوته من في المشرق والمغرب صادعا بالحق في زمن الأصوات المنكرة.
وإذا كان الراحلون من العظماء في العصر الحديث قد أسالوا مدامع محبيهم لإنسانيتهم، أو لجهادهم، أو لتضحياتهم، فإن شيخنا الفقيد كان كل ذلك وأكثر، فهو منظومة واسعة من القيم السامية العليا، وفضاء شاسع من المثل التي قل أن تجتمع في شخصية، وبهذا بكيناه إنسانا، ومجاهدا، وزعيما، وبكيناه رمزا من رموز الثورة والتحرر، وبكيناه محسنا كريما، وأبا لجميع اليمنيين.
هيهات استطيع استجلاءَ بعض من صور الإنسانية في شخصية هذا العملاق الذي فرض حبه واحترامه على اليمنيين وغيرهم بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، وجعل من شخصه الكريم بوصلة تقرب الآراء المختلفة، وتلم وجهات النظر المتشتتة، وتآخي القلوب المتنافرة.
لقد كان مجلس الشيخ عبد الله الأحمر مرتادا لكل أصدقائه ومحبيه كريما مضيافا، حتى ليشعر كل من في هذا المجلس أنه هو المعني بالحفاوة وكرم الضيافة، وقد ظل هذا المجلس مفتوحا للعلماء والمثقفين، والسياسيين، يتدارسون فيه قضايا شتى يكون للشيخ إسهامه المميز فيها.
ومما لا يعرفه الكثيرون عن الشيخ الأحمر أنه كان عالما بالتاريخ، محيطا بأيام العرب في الجاهلية والإسلام، عالما بأنسابهم، حافظا للكثير من الشعر الذي يعظم قيم الرجولة ويعمق أواصر المحبة والإنسانية، وكثيرا ما كان يناقشني في أطوار التأريخ السياسي لليمن في العصور الوسطى، خاصة عند ما اطلع على كتابي درر النحور، ومقدمتي عن تأريخ المخلاف السليماني، ودور الحمزيين والذرويين خلال عصر الولاة الأيوبيين الرسوليين في اليمن. لقد كان يناقش معي الأسماء والأنساب، وأيام الصراع، وقيم العدل والظلم، والمحق والمبطل، وكأنه متخصص في علم التاريخ الوسيط.
كما كان يثير استغرابي لقوة ذاكرة الرجل في حفظه الأسماء، وأنساب القبائل، وأيام العرب.
لقد كان شديد الثناء والدعاء لأساتذته الذين تلقى على أيديهم في صباه، ويعد مناقبهم عدا ويغمرهم بالثناء والذكر الحسن، كما كان شديد التأثر بمعارف وأفكار أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري، وأشهد أنه كان لا يبالي بقوة قوي إن كان على غير الحق، كما لا يضعف موقفه ولا يلين من جانبه كون صاحب الحق ضعيفا أو لا ناصر له..
ولقد أعطى الشيخ وهو السياسي المقتدر بهذا السلوك الإنساني الرفيع مفهوما متفردا للسياسة لا يبدّل المواقف، ولا يغير الخطاب، ولا يبيع الناس بالناس، وإنما ثبات على المبدأ، واستمرار مع الصدق، وقلب واسع يتّسع للجميع حتى لأولئك الذين اختلفوا معه، وخالفوه.
ولعل من أهم ما يميز شخصية الفقيد -رحمة الله تغشاه- أنه كسر الصورة التقليدية لزعماء القبائل، ووضع بدلا عنها صورة أكثر سعة، وأشد وضوحا، وأقرب إلى منفعة الناس، تجاوزت القبيلة إلى القطر، ثم ازدادت اتساعا متجاوزة القطرية إلى الإقليمية.
فرغم مشاغله الكثيرة في حل مشاكل القبلية – وما أكثرها- إلا أنه برز كمرجعية قيادية لكل اليمنيين، وتصدر لحل كثير من القضايا السياسية، فحقق فيها نجاحات متميزة، وأصبح مجلسه العامر ينوء بثقل كثير من القضايا التي وجد الناس أن وجاهة الشيخ النبيلة بوابة واسعة للحلول المرضية التي تستثمر قيم الأخوة والتسامح لإحقاق الحق وإبطال الباطل، كما أن قضايا الأمة الملحة لم تغب عن باله ساعة من الزمن، فقد اتسع لها قلبه الكبير، كما اتسع لها مجلسه العامر، بل وظلت هذه القضايا هاجسه الدائم في حله وترحاله، ولذا فقد جعل من فلسطين قضيته الأولى، وراح يرفع صوته عاليا، داعيا إلى مناصرة الشعب الفلسطيني، ومنددا بالتخاذل العربي والإسلامي تجاه هذه القضية، والتقى بعدد من علماء الأمة والغيورين عليها على المناصرة والمنافحة، وأكثر من تطوافه في سبيل ذلك، والتحق بعدد من اللجان الفاعلة في هذا المضمار، يسدد، ويقارب، ويناصر وينافح، حتى أصبح رمزا من رموز الأمة.
وإذا كان المجال الخيري من أخصب المجالات التي تتجلى فيها العواطف الإنسانية النبيلة، فقد كان للشيخ حضوره المتفرد فيها، يمد يد البذل مثقلة بالعطاء أبعد ما تكون عن المن والتشهير، مستقلا ما يبذله ساعيا إلى الأفضل، لا يعدد أياديه، ولا يعظّم مساعيه، ولا ينبس ببنت شفة فيما ينفق، ولعل الفعاليات الخيرية التي تفاعل معها الفقيد خير شاهد على ذلك، فقد امتنع فيها عن الكلام والخطابات الرنانة، فالمجال مجال عطاء وبذل، لا مجال فصاحة وخطابة، إدراكا منه أن أهم علة تنخر في السلوك الإنساني المعاصر ذلك الفصام النكد بين ما يقوله الإنسان، وبين ما يفعله، ولذلك فقد ترك للمساعي الحميدة أن تتولى مهمة التعبير عن عواطفه الجياشة تجاه مبادئه أينما وجدت الحاجة، ودعت الضرورة، وخاصة الجمعيات الخيرية، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم.
وإن لي مع هذا الراحل الميمون لمواقف خاصة، من أقوال وأفعال. في ظروف الأزمات، وأيام المحن. وفي أيام الرخاء والنصر، بدأت مع بداية التعارف والتواصل والتقارب والتشابك فالشراكة الفكرية والقناعات التعبدية، في المواقف والرؤى، في العسر واليسر، والشدة والرخاء، منذ سنة 1978م في مدينة خمر. ثم ما تلاها من السنوات العجاف، وساعات العسرة، في سنوات مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مرورا بعقد التسعينيات وعملنا تحت رئاسته في البرلمان. وانتهاء بأيام الوداع الأخيرة لمصر وذكرياته في القاهرة وعلى ذمة النقاهة المرضية قضيت مع الشيخ الراحل أياما قليلة وجلسات محدودة خلال شهر إبريل من سنة 2007م؛ لكنها كانت حافلة بأحاديث الذكريات، والمعانيات والقصص والأخبار، والقيم التي لو أخذت في سردها لما كفاني كتاب حافل لكن ختام الحديث في هذه الكلمة القصيرة أن أدلل على صمود الرجل وراء قناعاته مهما قال محبوه أو مبغضوه وذلك: حينما اطلعت على مذكراته قبل طبعها ونشرها، فطلبت إليه تلطيف بعض المفردات أو تحوير بعض الجمل التعبيرية في بعض الأخبار والوقائع، لكنه قبل البعض منها ورفض أكثرها؛ فزاد ذلك في قلبي حبا للرجل وإجلال وإكبارا ..
لقد كانت رزيتنا فيه عظيمة، وفاجعتنا أليمة، وعزاؤنا فيه أنه خلّد قيما ومُثلا لا تموت، وخلف أبناء يحيونه بإحياء مآثره، ويقدمون له الوفاء بتمثل نبله وكرمه وشجاعته.
دكتور: عبد الولي الشميري
رئيس مؤسسة الإبداع صنعاء
رئيس منتدى المثقف العربي القاهرة
عفواً لا توجد نتائج
|
|