سفارة الجمهورية اليمنية بالقاهرة

والمندوبية الدائمة لدى جامعة الدول العربية



من يوميات دبلوماسي في الخارج (2)

المستشار محمد محمد الهيصمي / 1 أكتوبر 2003
- صباح يوم 5 أغسطس 1997م حطت بي الطائرة القادمة من فرانكفورت في مطار شونفليد "الحقل الجميل" وعندما استدارت في نهاية المدرج لتقف نهائيا كانت ذاكرتي قد انتهت من استعراض ما كان.
- كنت قد سرحت أو سرحت بي خواطر عديدة طوال الرحلة.. كما أن ذكريات كثيرة عن زيارتي السابقة إلى مثلث برلين الشرقية وبراغ وموسكو وهي العواصم الأوروبية التي عملت بها في عصر الحرب الباردة كانت قد أخذتني بعيدا عن الزمان وإن لم يكن عن المكان.. لكن هذه المرة بعد أن أشاعت في رأسي كثيرا من البياض مما كان يمكن أن ينتظر إلى خريف العمر أو حين تسقط الثلوج البيضاء على رؤوس الجبال العالية.
- وصلت إلى برلين بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسور.. وتداعت خواطر.. وتدفقت ذكريات تفيض بالشجون مثل شلال هادر أثناء توجهي من المطار إلى مقر إقامتي في مبنى الأكاديمية الدبلوماسية الذي يقع على شارع "روخ شتراسية" في قلب برلين الغربية وقدمت إليه من صنعاء لأمكث تسعة أشهر وخمسة عشر يوما.
- حال وصولي إلى ذلك المقر الرائع الجميل لم أطق البقاء سوى نصف ساعة هرعت بعدها إلى الشارع في لهفة وشوق لأرى هل تغيرت برلين كثيرا أم أنها ماتزال كعهدي بها منذ إثني عشر عاما.
- عندما توجهت إلى بوابة براند نبورغ الكائنة على بعد أمتار قليلة من جدار برلين الشهير أحسست بأن برلين تعانقني كما لو أنها استعادت عزيزا رجع بعد غياب طويل وما كانت تتوقع أن تلتقي به ثانية.
- أول ما رأته عيناي عمالا يغسلون الأشجار المحتشدة على جانبي الطريق بالماء والشامبو.. وآخرين ينظفون طريق المارة بمكانس كهربائية كبيرة.. انتابتني مشاعر عميقة ومؤثرة حين لم أجد أثرا لجدار برلين!! وحين لم أجد أثرا كذلك لحرس الحدود الذين استوقفوني عام 1985م وطلبوا مني الحصول على تأشيرة لأتمكن من العبور وقالوا لي إن الطيور وحدها هي التي يمكنها العبور بدون فيزا.
- تلفت حولي فوجدت الناس سعداء وهم يعبرون بحرية وتلقائية الخط الذي كان فاصلا بين البرلينيتين.. نظرت إلى السماء فرأيت أسرابا من الطيور تسرح وتمرح صوب الغرب ثم ما تلبث أن تستدير من جديد لتعود نحو الشرق وكأنها ما تزال تحتفل في نشوة غامرة بعرس ألماني سرمدي.
على الفور تذكرت جواب وزير خارجية ألمانيا الديمقراطية على سؤال كنت قد وجهته إليه يوم 20 ديسمبر 1989م في المركز الصحافي التابع لوزارة الخارجية السوفيتية في موسكو عما تردد بشأن هذا الجدار حيث رد بحدة قائلا:
اسمع! لو حدث زلزال شديد ومدمر تبلغ درجاته (20 درجة!) بمقياس ريختر فإن كل شيء سيكون بالتأكيد حطاما إلا جدار برلين الذي سيظل واقفا إلى الأبد.
لم أستطع أن أكتم ضحكة لا إرادية عندما تذكرت أيضا بأن الوزير المسكين لم يتوقع أنه بعد مرور شهرين فقط من جوابه هذا تم إلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة وتم نسف الجدار تماما.
- في الوقت الذي كنت أمخر فيه عباب ذكرياتي إذا بفتاة في ربيع العمر تنزلق على الطريق أمامي بسرعة وهي محتذية عجلتين في قدميها.. فجأة ارتطمت بي ووقعنا سويا على الأرض.. عندما نهضت من عثرتها وهي تتأسف لي وتسألني إن كنت على ما يرام.. اجبتها بأنني الذي يجب أن أعتذر لأني كنت شارد البال.. ردت بابتسامة ودودة وقالت: انظر هنا توجد مقاعد كثيرة.. اجلس على واحد منها واسرح كما يحلو لك حتى لا يصيبك مكروه.. شكرتها بعناية وسألتها إذا كانت قد قبلت اعتذاري؟!.. لم تجب بل أطلقت ضحكة عالية قبل أن ترسل لي قبلة مع الهواء ثم تختفي بسرعة وسط الزحام.

للحديث بقية،